بيتكوين والعنصرية

بعد جائحة فيروس كورونا، حذر بعض العلماء والباحثين من خطر لم يلاحظه أو ربما لم يدركه سوى القليل من الأشخاص وهو خطر إزدياد العنصرية. قد يبدو الربط بين كورونا والعنصرية (وفيما بعد في المقالة مع البيتكوين) غريباً وغير منطقي بالنسبة للكثيرين؛ ولكن هناك العديد من الأدلة التاريخية التي تؤيد هذا الادعاء. على سبيل المثال، خلال انتشار الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر، تم اتهام اليهود في أوروبا بأنهم السبب في انتشار المرض، أو إلقاء اللوم على الآسيويين والإيطاليين في أمريكا في انتشار جائحة الإنفلونزا عام 1919، وما إلى ذلك.
وتكرر هذا الأمر في جائحة كوفيد أيضاً، مما أثار إنتباه الباحثين الاجتماعيين بخطر الذي تأثير الأوبئة على التماسك الاجتماعي. تصاعدت الكراهية العرقية والعنصرية في جميع أنحاء العالم منذ ظهور كوفيد-19، وساهمت الأزمات الاقتصادية في تأجيجها.
قبل الدخول في صلب الموضوع ولإدراك أهمية هذه القضية بالنسبة لنا، من الضروري أن نلقي نظرة على وضع العنصرية في البلدان العربية.
العنصرية في البلدان العربية
العنصرية في البلدان العربية هي جرح غائر يتغلغل في نسيج المجتمعات، يعكس أزمة أعمق تتداخل فيها عوامل التاريخ، الثقافة، والسياسة. هذه الظاهرة، التي تخفي خلف ستارها قضايا معقدة وشائكة، تتجلى بأشكال متنوعة لا تُخطئها العين. من التمييز على أساس اللون إلى الانتماء العرقي، ومن الإقصاء الطائفي إلى التهميش القبلي، باتت العنصرية تحديًا يهدد العدالة والتماسك في دول المنطقة.
في بعض المجتمعات، يعاني أصحاب البشرة الداكنة من نظرات دونية تُثقل كاهلهم، بينما يواجه العمال الوافدون، خاصة من جنوب آسيا وأفريقيا، معاناة مزدوجة تتمثل في الاستغلال الاقتصادي والمعاملة اللاإنسانية. نظام الكفالة في بعض دول الخليج، على سبيل المثال، يشكّل أداة تعزز الهيمنة والتمييز، حيث يتحكم أرباب العمل في مصائر العاملين، ما يضعهم في أوضاع أشبه بالعبودية الحديثة. أما اللاجئون، الذين تقطعت بهم السبل بحثًا عن الأمان، فلا يجدون في كثير من الأحيان سوى أبواب مغلقة، وإقصاء اجتماعي يضاعف من آلامهم.

في السودان، تُبرز العنصرية وجهًا آخر من القبح، حيث تؤدي الانقسامات العرقية إلى تغذية الصراعات الداخلية، لتصبح الهوية مصدر خلاف بدلاً من أن تكون عامل وحدة. وفي دول المغرب العربي، يواجه المهاجرون الأفارقة تحديات جمة، إذ يتم النظر إليهم على أنهم غرباء، مما يعوق اندماجهم الاجتماعي ويجعلهم هدفًا للتمييز في فرص العمل والمعاملة اليومية.
أما التوترات الطائفية في بلدان مثل لبنان والعراق، فهي تُلقي بظلالها على المجتمعات، حيث تتحول الانتماءات المذهبية إلى أدوات فرقة وصراعات، لتجعل من التمييز قاعدة بدلاً من استثناء. هذه الانقسامات لا تؤدي فقط إلى التمييز، بل تُشعل نزاعات سياسية واجتماعية تعصف بكيان المجتمعات، وتحرمها من الاستقرار والازدهار.
الأسباب التي تغذي هذه العنصرية متعددة ومتشابكة. فالموروثات التاريخية والثقافية تلعب دورًا رئيسيًا، إذ أن التصورات الاجتماعية القديمة ما زالت تُلقي بظلالها على الحاضر. كما أن الجهل وغياب التوعية بقيم المساواة وحقوق الإنسان يُبقيان المجتمعات حبيسة أفكار رجعية تُكرّس الفوارق بدلًا من تجاوزها. الأوضاع الاقتصادية، وما تخلّفه من فجوات بين الطبقات والفئات، تضيف مزيدًا من الزيت على النار، حيث تصبح المنافسة على الموارد والخدمات بيئة خصبة لنمو مشاعر الكراهية والتمييز.
العديد من المفكرين العرب تناولوا هذه القضية من زوايا مختلفة، محاولين تحليل جذورها وتقديم الحلول لتجاوزها.
عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، سلط الضوء على العلاقة الوثيقة بين الاستبداد السياسي والاجتماعي وبين تعزيز التفرقة والعنصرية. رأى أن الاستبداد هو البيئة المثالية لنمو التمييز والظلم، وأن القضاء عليه يبدأ بتحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع.
أما مالك بن نبي، المفكر الجزائري، فتناول هذه الظاهرة من زاوية أخرى، حيث ركز على فكرة “القابلية للاستعمار” التي تؤدي إلى انقسام المجتمعات وتكريس التفرقة. في كتابه “شروط النهضة”، دعا بن نبي إلى بناء إنسان متحرر من عقدة النقص ومن الأفكار التي تغذي العنصرية، مشددًا على أن النهضة الحقيقية تبدأ من تجاوز الانقسامات الداخلية وبناء مجتمع موحد.
عبد الله العروي، المفكر المغربي، تناول في كتاباته مثل “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” تأثير الثقافة والتقاليد على تكريس الفوارق الاجتماعية. رأى أن التاريخ والموروثات الثقافية لعبت دورًا كبيرًا في تغذية التمييز داخل المجتمعات العربية، ودعا إلى تبني منظور حداثي يعزز قيم المساواة والعدل.

وأخيرًا، محمد عابد الجابري، في مشروعه الفكري “نقد العقل العربي”، تطرق إلى الجذور الفكرية والاجتماعية للعنصرية، مشيرًا إلى أن البنى الفكرية الموروثة، مثل التفرقة العرقية والطائفية، تشكل عائقًا كبيرًا أمام بناء الدولة المدنية الحديثة. رأى الجابري أن إصلاح الفكر العربي هو المفتاح لتجاوز هذه الظاهرة، وأن المجتمعات لا يمكن أن تحقق العدالة دون تجاوز هذه الانقسامات.

العنصرية في الولايات المتحدة
لكن قضية العنصرية في أمريكا كانت دائماً مهمة من جانب آخر. فمنذ نشأتها، كانت الولايات المتحدة وجهةً للمهاجرين من جنسيات وأعراق مختلفة باحثين عن فرص حياة أفضل، وهو ما جعل البلاد تتمتع بتركيبة سكانية شديدة التنوع. هذا التنوع، رغم كونه ميزة، يبدو أيضاً مصدراً للتحديات والمشاكل.
لقد كانت العنصرية في أمريكا مشكلة حاول كل شخص حلها بطريقته الخاصة. وأحد أحدث الجهود المبذولة هو من جانب مجتمع البيتكوين، حيث ادّعى البعض أن تعريف الأفراد تحت عنوان “بيتكوينر” (Bitcoiner) يمكن أن يسهم في تقليل العنصرية.
في النظرة الأولى، قد يبدو هذا الادعاء بأن “البيتكوين يمكن أن يقلل من العنصرية” سخيفاً وحتى يُعتبر مهيناً لأولئك الذين كانوا ضحايا للعنصرية. يبدو أن هذا الادعاء يعتمد على وهم ساذج بأن مجموعة من الأكواد البرمجية التي لا علاقة لها بالمشاعر الإنسانية قادرة على تغيير أحد أبشع سلوكيات البشر: العنصرية.
هذه المجموعة استندت لتبرير وإثبات ادعائها إلى أبحاث البروفيسور روبرت بوتنام من جامعة هارفارد. لذا، دعونا أولاً نتعرف قليلاً على روبرت بوتنام.

روبرت بوتنام: شخصية بارزة في العلوم الاجتماعية
روبرت ديفيد بوتنام (Robert D. Putnam) هو أحد أشهر أساتذة العلوم السياسية في العالم، ويشتهر بأبحاثه في مجال رأس المال الاجتماعي والتفاعلات الاجتماعية. ولد عام 1941 وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة ييل. خلال مسيرته الأكاديمية، حصل بوتنام على العديد من الجوائز وكان له تأثير كبير في العديد من مجالات العلوم الاجتماعية. لم تقتصر شهرة كتبه على الأوساط الأكاديمية فحسب، بل حظيت أيضاً باهتمام صناع السياسات والناشطين الاجتماعيين.
أظهر بوتنام في كتابه “البولينغ وحيداً: انهيار وإعادة بناء الروابط الاجتماعية في أمريكا “( Bowling Alone: The Collapse and Revival of American Community)، بإستخدام بيانات واسعة ومتنوعة أنه في العقود الأخيرة، انخفضت المشاركة الاجتماعية في الولايات المتحدة، وأن هذا الأمر كان له تأثيرات سلبية على التماسك الاجتماعي. لقد أصبح هذا الكتاب من الكلاسيكيات في مجال علم الاجتماع وأثار جدلاً واسع النطاق حول دور التفاعلات الاجتماعية في عالم اليوم.
انتقادات للتنوع الاجتماعي
كان يهدف روبرت بوتنام في البداية في كتابه “البولينغ وحيداً” إلى إثبات أن التنوع هو سمة إيجابية بطبيعته. لكن نتائج أبحاثه أظهرت عكس ذلك. ووجد باتنام أن التنوع يمكن أن يؤدي إلى إضعاف الحياة المدنية، لأنه يزيد من انعدام الثقة بين الجماعات العرقية والإثنية المختلفة. وشرح أن البشر يميلون بطبيعتهم إلى تقسيم الآخرين إلى “مجموعة المعارف” و”مجموعة الغرباء”، وهذا الميل يجعلنا نشك في أولئك الذين لا يشبهوننا، ونثق أكثر في أولئك الذين نشاركهم هويتنا.
وبالطبع، ليس روبرت بوتنام هو الشخص الوحيد الذي يعتقد أن التنوع العرقي ليس بالضرورة سمة مفيدة وإيجابية، ويمكن أن يخلق في بعض الأحيان تحديات للتماسك الاجتماعي والثقة المتبادلة والتعاون.
صمويل هنتنغتون (Samuel P. Huntington)، المنظر الشهير في العلوم السياسية، تناول هذا الموضوع في في كتابه “Who Are We? The Challenges to America’s National Identity”حيث أشار إلى أن زيادة التنوع العرقي والثقافي الشديد أو التعددية الثقافية ((multiculturalism)) يمكن أن يؤدي إلى إضعاف التماسك الاجتماعي ويؤثر سلباً على الوحدة الوطنية.
كما ناقش بيتر تورشين (Peter Turchin) في كتابه ” Ages of Discord: A Structural-Demographic Analysis of American History” وكتب عالم الاجتماع الشهير إيمانويل والرشتاين (Immanuel Wallerstein) أيضاً في كتاب “النظام العالمي الحديث” ( The Modern World-System)، والذي يعد أحد أعظم أعمال العلوم الاجتماعية، هذا الموضوع ووصلوا بطريقة مماثلة إلى أن المجتمعات ذات التنوع الثقافي والعرقي الكبير غالباً ما تواجه مزيداً من عدم المساواة الاجتماعية، وهذه اللامساوات يمكن أن تؤدي إلى انخفاض التماسك الاجتماعي وزيادة التوترات.

حتى بيتر ثيل (Peter Thiel)، الشخصية الأسطورية في وادي السيليكون، تناول هذا الموضوع في كتابه ” The Diversity Myth: Multiculturalism and the Politics of Intolerance at Stanford ” الذي نُشر عام 1995، ويزعم أن التركيز على التنوع والتعددية الثقافية في الجامعات يؤدي إلى تعزيز السياسات الهووية بدلاً من الأنظمة القائمة على الجدارة، مما يسبب الانقسام وقمع حرية التعبير، حيث تصبح بعض الأفكار أو وجهات النظر من المحرمات وغير قابلة للنقاش.

ولكن لنعد إلى بوتنام. أظهرت أبحاث بوتنام أن الإنسان لا يمكنه قبول الآخر كجزء من “مجموعة المعارف” إلا عندما يدرك أنه يشترك معه في شيء يتجاوز العرق أو الأصل الإثني. بمجرد العثور على هذا القاسم المشترك، يتحول التنوع إلى نقطة قوة. يمكن أن يكون هذا القاسم المشترك أي شيء، من الدين والمعتقدات إلى الموسيقى والرياضة.
وبناءً على هذه النقطة، اقترح البعض في مجتمع البيتكوين فكرة مفادها أن تعريفاً جديدًا للهوية يُطلق عليه ” كونك بيتكوينياً” قد يساعد في تقليل الاختلافات العرقية.
البيتكوين: هوية مشتركة لتقليل الفوارق
إذا طبقنا بحث بوتنام على البيتكوين، فيمكننا القول إن تعريف هوية الأشخاص من خلال البيتكوين قد يكون وسيلة لتقليل الفوارق العرقية. لدى مستخدمي البيتكوين دوافع مشتركة؛ بما في ذلك الإيمان بالمال الصعب (الذي لا يمكن تكاثره بسهولة) والحر(خارج سيطرة الحكومات) والإعتقاد بالحق في إجراء المعاملات دون الحاجة إلى إذن. إن هذه القواسم المشتركة تعمل على تعزيز الروابط والثقة فيما بينهم، وهذه الثقة تؤدي إلى مزيد من التعاون بين الأفراد. عندما يعمل الناس معاً، يصبح التنوع نقطة قوة.
هذا لا يعني أن كل من هو من مستخدمي البيتكوين خالي تماماً من أي تحيز عنصري، ولكن يمكن القول أن القواسم المشتركة بينهم أقوى من الاختلافات وأن هوية كونك من مستخدمي البيتكوين يمكن أن تكون فعالة في انخفاض العنصرية.
الخاتمة
مجتمع البيتكوين لا يزال يعيش في حالة من التفاؤل المفرط، معتقدًا أن البيتكوين هو الحل للعديد من المشكلات، بدءًا من التضخم وصولًا إلى الأزمات البيئية، والآن حتى العنصرية. رغم أن البيتكوين فشل بشكل شبه قاطع في تحقيق هدفه الأساسي المتمثل في استبدال العملات الورقية ليصبح عملة متداولة، وأصبح يُنظر إليه اليوم بشكل رئيسي كأصل استثماري، إلا أنه لا يزال يحظى بمؤيدين متحمسين ومثاليين. ومع ذلك، يجب ألا نوفر أي جهد في تقليل وتخفيف العنصرية المنتشرة عالميًا. لذلك، نأمل أن يسهم البيتكوين، على الأقل داخل مجتمع أنصاره، في تقليل العنصرية وتعزيز قيم التفاهم.
لا يزال مجتمع البيتكوين يعيش في أوهامه المتفائلة ويرى أن البيتكوين هو الحل للعديد من المشاكل؛ بدءاً من التضخم وصولاً إلى الأزمات البيئية والآن حتى العنصرية. على الرغم من أن البيتكوين قد فشلت بشكل شبه قاطع في تحقيق هدفها الأصلي المتمثل في استبدال العملات الورقية والتحول إلى عملة سائدة، وتعتبر الآن إلى حد كبير أصل استثماري، إلا أنها لا تزال لديها مؤيدين متعصبين ومثاليين. ولكن على أية حال، لا ينبغي لنا أن نتخلى عن أي جهد في تقليل وتخفيف العنصرية المنتشرة على نطاق واسع في العالم. ولهذا السبب نأمل أن يؤدي البيتكوين إلى تقليل العنصرية، على الأقل داخل مجتمع أنصاره.
معالجة هذه الظاهرة ليست رفاهية بل ضرورة مُلحة لتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء مجتمعات متماسكة قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. هذه المعالجة تتطلب استراتيجيات شاملة تبدأ من سن القوانين التي تُجرّم السلوكيات العنصرية، ولا تنتهي عند التوعية المجتمعية عبر الإعلام والمناهج التعليمية. يجب أن يتم الاعتراف بالمشكلة بجرأة دون تجميل، لأن الاعتراف هو الخطوة الأولى نحو الحل.
المستقبل لن يرحم المجتمعات التي تُغذي العنصرية وتُبررها. وحدها المجتمعات التي تسعى إلى المساواة والتسامح ستنجح في تحقيق التنمية والازدهار، لأن العدالة ليست فقط قيمة إنسانية، بل هي الأساس الذي تُبنى عليه حضارات تبقى شاهدة على رقيها وإنسانيتها.